فصل: تفسير الآية رقم (91):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (71):

{وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِالْحَقِّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْحَقُّ: هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَقَّ مِنْ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [24/ 25] وَقَوْلُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [22/ 6] وَكَوْنُ الْمُرَادِ بِالْحَقِّ فِي الْآيَةِ: هُوَ اللَّهَ عَزَاهُ الْقُرْطُبِيُّ لِلْأَكْثَرِينَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ: مُجَاهِدٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالسُّدِّيُّ، وَرُوِيَ عَنْ قَتَادَةَ، وَغَيْرِهِمْ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى لَوْ أَجَابَهُمُ اللَّهُ إِلَى تَشْرِيعِ مَا أَحَبُّوا تَشْرِيعَهُ وَإِرْسَالِ مَنِ اقْتَرَحُوا إِرْسَالَهُ، بِأَنْ جَعَلَ أَمْرَ التَّشْرِيعِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ تَابِعًا لِأَهْوَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَمَنْ فِيهِنَّ؛ لِأَنَّ أَهْوَاءَهُمُ الْفَاسِدَةَ وَشَهَوَاتِهِمُ الْبَاطِلَةَ، لَا يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهَا السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَذَلِكَ لِفَسَادِ أَهْوَائِهِمْ، وَاخْتِلَافِهَا. فَالْأَهْوَاءُ الْفَاسِدَةُ الْمُخْتَلِفَةُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهَا نِظَامُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، بَلْ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُتَّبَعَةَ لَفَسَدَ الْجَمِيعُ.
وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ أَهْوَاءَهُمْ لَا تَصْلُحُ؛ لِأَنْ تَكُونَ مُتَّبَعَةً قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [43/ 31]؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَوْ أُنْزِلَ عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، وَهُوَ كَافِرٌ يَعْبُدُ الْأَوْثَانَ فَلَا فَسَادَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} الْآيَةَ [43/ 32]، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا} [7/ 100] وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} [4/ 53] قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: فَفِي هَذَا كُلِّهِ تَبْيِينُ عَجْزِ الْعِبَادِ، وَاخْتِلَافُ آرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ، وَأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الْكَامِلُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَشَرْعِهِ وَقَدَرِهِ وَتَدْبِيرِهِ لِخَلْقِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ أَنَّ الْحَقَّ لَوِ اتَّبَعَ الْأَهْوَاءَ الْفَاسِدَةَ الْمُخْتَلِفَةَ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [21/ 22] فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَقِّ فِي الْآيَةِ: الْحَقُّ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْبَاطِلِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [23/ 70] وَهَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ اخْتَارَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَأَنْكَرَ الْأَوَّلَ.
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ كَوْنَ الْحَقِّ مُتَّبِعًا لِأَهْوَائِهِمْ، الَّتِي هِيَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَادِّعَاءُ الْأَوْلَادِ، وَالْأَنْدَادِ لَهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ لَفَسَدَ كُلُّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ هَذَا الْفَرْضَ يَصِيرُ بِهِ الْحَقُّ، هُوَ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ نِظَامُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى شَيْءٍ، هُوَ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ اسْتِقَامَةَ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ لَا تُمْكِنُ إِلَّا بِقُدْرَةِ وَإِرَادَةِ إِلَهٍ هُوَ الْحَقُّ مُنْفَرِدٌ بِالتَّشْرِيعِ، وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الذِّكْرِ فِي الْآيَةِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: ذِكْرُهُمْ: فَخْرُهُمْ، وَشَرَفُهُمْ؛ لِأَنَّ نُزُولَ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فِيهِ لَهُمْ أَكْبَرُ الْفَخْرِ وَالشَّرَفِ، وَعَلَى هَذَا، فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [43/ 44] عَلَى تَفْسِيرِ الذِّكْرِ بِالْفَخْرِ وَالشَّرَفِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الذِّكْرُ فِي الْآيَةِ: الْوَعْظُ وَالتَّوْصِيَةُ، وَعَلَيْهِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [3/ 58] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الذِّكْرُ هُوَ مَا كَانُوا يَتَمَنَّوْنَهُ فِي قَوْلِهِ: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [37/ 168- 169] وَعَلَيْهِ، فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} [35/ 42] وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} الْآيَةَ [35/ 42] كَقَوْلِهِ هُنَا، فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ، وَكَقَوْلِهِ: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [6/ 157] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَخِيرِ كَثِيرَةٌ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (72):

{أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} الْمُرَادُ بِالْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ هُنَا: الْأَجْرُ وَالْجَزَاءُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ لَا تَسْأَلُهُمْ عَلَى مَا بَلَّغْتَهُمْ مِنَ الرِّسَالَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِخَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، أُجْرَةً وَلَا جُعْلًا، وَأَصْلُ الْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ: هُوَ مَا تُخْرِجُهُ إِلَى كُلِّ عَامِلٍ فِي مُقَابَلَةِ أَجْرِهِ، أَوْ جَعْلٍ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَتَضَمَّنُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَسْأَلُهُمْ أَجْرًا، فِي مُقَابَلَةِ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ.
وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ لَا يَأْخُذُونَ الْأُجْرَةَ عَلَى التَّبْلِيغِ فِي سُورَةِ هُودٍ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} الْآيَةَ [11/ 29] وَبَيَّنَّا وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ تِلْكَ الْآيَاتِ، مَعَ آيَةِ: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [42/ 23] وَبَيَّنَّا هُنَاكَ حُكْمَ أَخْذِ الْأُجْرَةِ، عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا. وَقَرَأَ هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ ابْنُ عَامِرٍ: خَرْجًا فَخَرْجُ رَبِّكَ، بِإِسْكَانِ الرَّاءِ فِيهِمَا مَعًا، وَحَذْفِ الْأَلِفِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: خَرَاجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ بِفَتْحِ الرَّاءِ بَعْدَهَا أَلِفٌ فِيهِمَا مَعًا، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ، وَحَذْفِ الْأَلِفِ فِي الْأَوَّلِ، وَفَتْحِ الرَّاءِ وَإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الثَّانِي، وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مَعْنَى الْخَرْجِ وَالْخَرَاجِ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ وَقِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ بَيْنَ مَعْنَاهُمَا فَرْقًا زَاعِمًا أَنَّ الْخَرْجَ مَا تَبَرَّعْتَ بِهِ، وَالْخَرَاجُ: مَا لَزِمَكَ أَدَاؤُهُ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يُسَاعِدُ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [23/ 72] نَظَرًا إِلَى أَنَّ بَعْضَ الْمَخْلُوقِينَ يَرْزُقُ بَعْضَهُمْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [4/ 5] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} الْآيَةَ [2/ 233]، وَلَا شَكَّ أَنَّ فَضْلَ رِزْقِ اللَّهِ خَلْقَهُ، عَلَى رِزْقِ بَعْضِ خَلْقِهِ بَعْضِهِمْ كَفَضْلِ ذَاتِهِ، وَسَائِرِ صِفَاتِهِ عَلَى ذَوَاتِ خَلْقِهِ، وَصِفَاتِهِمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ، لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [22/ 67] فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

.تفسير الآية رقم (74):

{وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لِإِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ، نَاكِبُونَ عَنِ الصِّرَاطِ، وَالْمُرَادُ بِالصِّرَاطِ، الَّذِي هُمْ نَاكِبُونَ عَنْهُ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْمُوَصِّلُ إِلَى الْجَنَّةِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ قَبْلَهُ: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [23/ 73] وَمَنْ نَكَبَ عَنْ هَذَا الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، دَخَلَ النَّارَ بِلَا شَكٍّ.
وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرُّومِ: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [30/ 16] وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَنَاكِبُونَ: عَادِلُونَ عَنْهُ، حَائِدُونَ غَيْرُ سَالِكِينَ إِيَّاهُ وَهُوَ مَعْنًى مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نُصَيْبٍ:
خَلِيلِيَّ مِنْ كَعْبٍ أَلَمًا هَدَيْتُمَا ** بِزَيْنَبَ لَا تَفْقِدْكُمَا أَبَدًا كَعْبُ

مِنَ الْيَوْمِ زُورَاهَا فَإِنَّ رِكَابَنَا ** غَدَاةَ غَدٍ عَنْهَا وَعَنْ أَهْلِهَا نَكْبُ

جَمْعُ نَاكِبَةٍ، عَنْهَا أَيْ: عَادِلَةٌ عَنْهَا مُتَبَاعِدَةٌ عَنْهَا، وَعَنْ أَهْلِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ الْمَعْدُومَ الَّذِينَ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يُوجَدُ أَنْ لَوْ وُجِدَ، كَيْفَ يَكُونُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [6/ 28] فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [23/ 75] اللَّجَاجُ هُنَا: التَّمَادِي فِي الْكُفْرِ وَالضَّلَالِ، وَالطُّغْيَانُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَهُوَ كُفْرُهُمْ بِاللَّهِ، وَادِّعَاؤُهُمْ لَهُ الْأَوْلَادَ وَالشُّرَكَاءَ، وَقَوْلُهُ: يَعْمَهُونَ: يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَيِّرِينَ لَا يُمَيِّزُونَ حَقًّا، مِنْ بَاطِلٍ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْعَمَهُ: عَمَى الْقَلْبِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

.تفسير الآية رقم (76):

{وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَخَذَ الْكُفَّارَ بِالْعَذَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ هُنَا: الْعَذَابُ الدُّنْيَوِيُّ كَالْجُوعِ وَالْقَحْطِ وَالْمَصَائِبِ، وَالْأَمْرَاضِ وَالشَّدَائِدِ، فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ أَيْ: مَا خَضَعُوا لَهُ، وَلَا ذَلُّوا وَمَا يَتَضَرَّعُونَ أَيْ: مَا يَبْتَهِلُونَ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ مُتَضَرِّعِينَ لَهُ، لِيَكْشِفَ عَنْهُمْ ذَلِكَ الْعَذَابَ لِشِدَّةِ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ، وَبُعْدِهِمْ مِنَ الِاتِّعَاظِ، وَلَوْ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِمَا يَسْتَوْجِبُ ذَلِكَ مِنْ إِصَابَةِ عَذَابِ اللَّهِ لَهُمْ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [6/ 42- 43] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [7/ 94- 95] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

.تفسير الآية رقم (78):

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} قَدْ ذَكَرْنَا الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا إِيضَاحٌ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [16/ 78] وَبَيَّنَّا هُنَاكَ وَجْهَ إِفْرَادِ السَّمْعِ مَعَ الْجَمْعِ لِلْأَبْصَارِ وَالْأَفْئِدَةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ذَرَأَكُمْ مَعْنَاهُ: خَلَقَكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} الْآيَةَ [7/ 179] وَقَوْلُهُ فِي الْأَرْضِ، أَيْ: خَلَقَكُمْ وَبَثَّكُمْ فِي الْأَرْضِ، عَنْ طَرِيقِ التَّنَاسُلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} الْآيَةَ [4/ 1] وَقَالَ: {ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [30/ 20] وَقَوْلُهُ: وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أَيْ: إِلَيْهِ وَحْدَهُ، تُجْمَعُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحْيَاءً بَعْدَ الْبَعْثِ لِلْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ، مِنْ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ، وَبَثَّهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ سَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، جَاءَ مَعْنَاهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ؛ كَقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [23/ 12- 16] وَذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- أَيْضًا هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي سُورَةِ الْمُلْكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [67/ 23- 25] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْإِمَاتَتَيْنِ وَالْإِحْيَاءَتَيْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الدَّوَاعِي لِلْإِيمَانِ بِهِ- جَلَّ وَعَلَا- فِي سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [22/ 26] وَفِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ} [2/ 28]، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} بَيَّنَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ لَهُ اخْتِلَافَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، يَعْنِي: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْفَاعِلُ لَهُ وَهُوَ الَّذِي يَذْهَبُ بِاللَّيْلِ، وَيَأْتِي بِالنَّهَارِ، ثُمَّ يَذْهَبُ بِالنَّهَارِ وَيَأْتِي بِاللَّيْلِ، وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، مِنْ أَعْظَمِ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ مِنَنِهِ عَلَى خَلْقِهِ كَمَا بَيَّنَ الْأَمْرَيْنِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الْآيَةَ [28/ 71- 73]، أَيْ: لِتَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ وَتَطْلُبُوا مَعَايِشَكُمْ بِالنَّهَارِ. وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَةِ اللَّهِ، وَاسْتِحْقَاقِهِ لِلْعِبَادَةِ وَحْدَهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} الْآيَةَ [41/ 37] وَقَوْلِهِ: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [36/ 37] وَقَوْلِهِ: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} الْآيَةَ [7/ 54] وَقَوْلِهِ: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [36/ 40] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} الْآيَةَ [14/ 33]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [10/ 6] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أَيْ: تُدْرِكُونَ بِعُقُولِكُمْ أَنَّ الَّذِي يُنْشِئُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُخَالِفُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَنَّهُ الْإِلَهُ الْحَقُّ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ- جَلَّ وَعَلَا-، الَّذِي لَا يَصِحُّ أَنْ يُسَوَّى بِهِ غَيْرُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا.

.تفسير الآية رقم (81):

{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لَفَظَةُ بَلْ هُنَا لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَتِ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ، مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي قَوْلِهِ: أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ إِنْكَارٌ مِنْهُمْ لِلْبَعْثِ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى إِنْكَارِهِمْ لِلْبَعْثِ كَثِيرَةٌ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [36/ 78] وَكَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [6/ 29] {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} [44/ 35] وَقَوْلِهِ عَنْهُمْ: {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [79/ 11- 12]، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ كَثِيرَةٌ: وَقَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} الْآيَةَ [2/ 21]، وَفِي أَوَّلِ سُورَةِ النَّحْلِ، وَغَيْرِهِمَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَوْرَدْنَا مِنْهَا كَثِيرًا كَقَوْلِهِ: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} الْآيَةَ [36/ 79]، وَقَوْلِهِ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [30/ 27] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ الْآيَاتِ} [22/ 5]، وَأَوْضَحْنَا أَرْبَعَةَ بَرَاهِينَ قُرْآنِيَّةٍ دَالَّةٍ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَكْثَرْنَا مِنْ ذِكْرِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنِ التَّطْوِيلِ هُنَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَئِذَا مِتْنَا قَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ، بِالِاسْتِفْهَامِ فِي: أَئِذَا مِتْنَا، وَحَذَفَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ، فِي أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، بَلْ قَرَأَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ لِدَلَالَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ، عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الثَّانِي الْمَحْذُوفِ وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِالْعَكْسِ، فَحَذَفَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ، مِنْ أَئِذَا، وَقَرَأَ إِذَا بِدُونِ اسْتِفْهَامٍ، وَأَثْبَتَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ وَقَدْ دَلَّ الِاسْتِفْهَامُ الثَّانِي الْمُثْبَتُ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ، عَلَى الِاسْتِفْهَامِ الْأَوَّلِ الْمَحْذُوفِ فِيهَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ بِالِاسْتِفْهَامِ فِيهِمَا مَعًا: أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ وَهُمْ عَلَى أُصُولِهِمْ فِي الْهَمْزَتَيْنِ، فَنَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو يُسَهِّلُونَ الثَّانِيَةَ، وَالْبَاقُونَ يُحَقِّقُونَهَا، وَأَدْخَلَ قَالُونُ، وَأَبُو عَمْرٍو وَهِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ أَلِفًا بَيْنَ الْهَمْزَتَيْنِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالْقَصْرِ دُونَ الْأَلِفِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ: مِتْنَا بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَالْبَاقُونَ: بِضَمِّ الْمِيمِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} الْآيَةَ [19/ 23] وَجْهَ كَسْرِ الْمِيمِ فِي إِسْنَادِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مَاتَ إِلَى تَاءِ الْفَاعِلِ، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ يَخْفَى عَلَى كَثِيرٍ مِنْ طَلَبَةِ الْعِلْمِ، وَأَوْضَحْنَا وُجْهَةَ غَايَةٍ مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

.تفسير الآية رقم (83):

{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}.
ذَكَرَ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، أَنَّ الْكُفَّارَ الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ قَالُوا: إِنَّهُمْ وُعِدُوا بِالْبَعْثِ، وَوُعِدَ بِهِ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَعْنُونَ أَجْدَادَهُمْ، الَّذِينَ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ، وَأَخْبَرَتْهُمْ بِأَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْبَعْثَ الَّذِي وُعِدُوا بِهِ هُمْ وَآبَاؤُهُمْ كَذِبٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَأَنَّهُ مَا هُوَ إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ أَيْ: مَا سَطَّرُوهُ وَكَتَبُوهُ مِنَ الْأَبَاطِيلِ وَالتُّرَّهَاتِ، وَالْأَسَاطِيرُ: جَمْعُ أُسْطُورَةٍ، وَقِيلَ: جَمْعُ أُسْطَارَةٍ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْهُمْ مِنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ ذُكِرَ مِثْلُهُ فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي قَوْلِهِ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [27/ 67- 68]، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى الْبَعْثِ، الَّذِي أَنْكَرُوهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِلَى قَوْلِهِ: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [23/ 84- 89]؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْأَرْضُ، وَمَنْ فِيهَا، وَمَنْ هُوَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، وَمَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، لَا شَكَّ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى بَعْثِ النَّاسِ بَعْدَ الْمَوْتِ، كَمَا أَوْضَحْنَا فِيمَا مَرَّ الْبَرَاهِينَ الْقُرْآنِيَّةَ الْقَطْعِيَّةَ، الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ.

.تفسير الآيات (84-89):

{قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} قَدَّمْنَا مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْكَرِيمَةُ، مِنْ كَمَالِهِ وَجَلَالِهِ وَأَوْصَافِ رُبُوبِيَّتِهِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ، فِي سُورَةِ يُونُسَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَفْتَرُونَ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [10/ 31] وَفِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [17/ 9] وَأَوْضَحْنَا دَلَالَةَ تَوْحِيدِهِ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، عَلَى تَوْحِيدِهِ فِي عِبَادَتِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا كَثِيرًا مِنَ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى ذَلِكَ، مَعَ الْإِيضَاحِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ الْمَلَكُوتُ: فَعَلُوتُ مِنَ الْمُلْكِ أَيْ: مَنْ بِيَدِهِ مُلْكُ كُلِّ شَيْءٍ، بِمَعْنَى: مَنْ هُوَ مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ كَائِنًا مَا كَانَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: زِيَادَةُ الْوَاوِ وَالتَّاءِ فِي نَحْوِ: الْمَلَكُوتِ، وَالرَّحَمُوتِ، وَالرَّهَبُوتِ بِمَعْنَى الْمُلْكِ وَالرَّحْمَةِ، وَالرَّهْبَةِ: تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي ذَلِكَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، أَيْ: هُوَ يَمْنَعُ مَنْ شَاءَ مِمَّنْ شَاءَ، وَلَا يَمْنَعُ أَحَدٌ مِنْهُ أَحَدًا شَاءَ أَنْ يُهْلِكَهُ أَوْ يُعَذِّبَهُ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَادِرُ وَحْدَهُ، عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَرَاكَ طَفِقْتَ تَظْلِمُ مَنْ أَجَرْنَا ** وَظُلْمُ الْجَارِ إِذْلَالُ الْمُجِيرِ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أَيْ: كَيْفَ تُخْدَعُونَ، وَتُصْرَفُونَ عَنْ تَوْحِيدِ رَبِّكُمْ، وَطَاعَتِهِ مَعَ ظُهُورِ بَرَاهِينِهِ الْقَاطِعَةِ وَأَدِلَّتِهِ السَّاطِعَةِ، وَقِيلَ: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ، أَيْ: كَيْفَ يُخَيَّلُ إِلَيْكُمْ: أَنْ تُشْرِكُوا بِهِ مَا لَا يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ، وَلَا يُغْنِي عَنْكُمْ شَيْئًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ السِّحْرَ هُوَ التَّخْيِيلُ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى السِّحْرِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ طه فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [20/ 69] وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى تُسْحَرُونَ هُنَا: تُخْدَعُونَ بِالشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ فَيَذْهَبُ بِعُقُولِكُمْ، عَنِ الْحَقِّ كَمَا يُفْعَلُ بِالْمَسْحُورِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} قَرَأَهُ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ بِتَخْفِيفِ الذَّالِ بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِالتَّشْدِيدِ لِإِدْغَامِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ فِي الذَّالِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، الْأَوَّلُ: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَهَذِهِ اتَّفَقَ جَمِيعُ السَّبْعَةِ عَلَى قِرَاءَتِهَا بِلَامِ الْجَرِّ الدَّاخِلَةِ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ؛ لِأَنَّهَا جَوَابُ الْمَجْرُورِ بِلَامِ الْجَرِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا فَجَوَابُ لِمَنِ الْأَرْضُ، هُوَ أَنْ تَقُولَ: لِلَّهِ، وَأَمَّا الثَّانِي الَّذِي هُوَ: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. وَالثَّالِثُ: الَّذِي هُوَ قَوْلُهُ: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ فَقَدْ قَرَأَهُمَا أَبُو عَمْرٍو بِحَذْفِ لَامِ الْجَرِّ وَرَفْعِ الْهَاءِ مِنْ لَفْظِ الْجَلَالَةِ.
وَالْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو الْمَذْكُورَةِ وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي جَوَابِ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ، وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، أَنْ تَقُولَ: اللَّهُ بِالرَّفْعِ، أَيْ: رَبُّ مَا ذُكِرَ هُوَ اللَّهُ، وَكَذَلِكَ جَوَابُ قَوْلِهِ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ الْآيَةَ. فَالظَّاهِرُ فِي جَوَابِهِ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ بِالرَّفْعِ، أَيْ: الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ، فَقِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو جَارِيَةٌ عَلَى الظَّاهِرِ، الَّذِي لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَقَرَأَ الْحَرْفَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ غَيْرُهُ مِنَ السَّبْعَةِ، بِحَرْفِ الْجَرِّ وَخَفْضِ الْهَاءِ مِنْ لَفْظِ الْجَلَالَةِ كَالْأَوَّلِ.
وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي هِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: مَا وَجْهُ الْإِتْيَانِ بِلَامِ الْجَرِّ، مَعَ أَنَّ السُّؤَالَ لَا يَسْتَوْجِبُ الْجَوَابَ بِهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ فِي جَوَابِهِ: رَبُّهُمَا اللَّهُ، وَإِذًا يُشْكِلُ وَجْهُ الْإِتْيَانِ بِلَامِ الْجَرِّ. وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ مَعْرُوفٌ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ} الْآيَةَ، وَقَوْلَهُ: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ فِيهِ مَعْنًى: مَنْ هُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالْعَرْشِ، وَكُلِّ شَيْءٍ فَيُحْسِنُ الْجَوَابَ بِأَنْ يُقَالَ: لِلَّهِ، أَيْ: كُلُّ ذَلِكَ مِلْكٌ لِلَّهِ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا قِيلَ مَنْ رَبُّ الْمَزَالِفِ وَالْقُرَى ** وَرَبُّ الْجِيَادِ الْجُرْدِ قُلْتُ لِخَالِدِ

لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَنْ رَبُّ الْمَزَالِفِ فِيهِ مَعْنَى مَنْ هُوَ مَالِكُهَا، فَحَسُنَ الْجَوَابُ بِاللَّامِ: أَيْ هِيَ لِخَالِدٍ، وَالْمَزَالِفُ: مَزْلَفَةٌ كَمَرْحَلَةٍ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: هِيَ كُلُّ قَرْيَةٍ تَكُونُ بَيْنَ الْبَرِّ وَالرِّيفِ، وَجَمْعُهَا مَزَالِفُ.

.تفسير الآية رقم (91):

{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} بَيَّنَ اللَّهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ ثَلَاثَ مَسَائِلَ:
الْأُولَى: أَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَالثَّالِثَةُ: أَنَّهُ أَقَامَ الْبُرْهَانَ عَلَى اسْتِحَالَةِ تَعَدُّدِ الْآلِهَةِ بِقَوْلِهِ:
إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. أَمَّا ادِّعَاؤُهُمْ لَهُ الْأَوْلَادَ، فَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى عِظَمِ فِرْيَتِهِمْ فِي ذَلِكَ، وَظُهُورِ بُطْلَانِ دَعْوَاهُمْ، وَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ في مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةً، فَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ، عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} الْآيَةَ [16/ 57- 58]، وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْهُ فِي أَوَّلِ الْكَهْفِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [18/ 4]، وَفِي مَوَاضِعَ غَيْرِ مَا ذُكِرَ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَأَمَّا تَفَرُّدُهُ تَعَالَى بِالْأُلُوهِيَّةِ مَعَ إِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ، وَذَكَرْنَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [17/ 42] وَلَمْ نَتَعَرَّضْ لِمَا يُسَمِّيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ دَلِيلَ التَّمَانُعِ، لِكَثْرَةِ الْمُنَاقَشَاتِ الْوَارِدَةِ عَلَى أَهْلِ الْكَلَامِ فِيهِ، وَإِنَّمَا بَيَّنَّا الْآيَاتِ بِالْقُرْآنِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ الْقُرْآنِيِّ بِهَا فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أَمَرَ- جَلَّ وَعَلَا- نَبِيَّهُ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ أَنْ يَقُولَ: رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ، أَيْ: أَنْ تُرِنِي مَا تُوعِدُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، بِأَنْ تُنْزِلَهُ بِهِمْ، وَأَنَا حَاضِرٌ شَاهِدٌ أَرَى نُزُولَهُ بِهِمْ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، أَيْ: لَا تَجْعَلْنِي فِي جُمْلَةِ الْمُعَذَّبِينَ الظَّالِمِينَ، بَلْ أَخْرِجْنِي مِنْهُمْ، وَنَجِّنِي مِنْ عَذَابِهِمْ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ: أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ بِهِمُ الْعَذَابُ، وَهُوَ فِيهِمْ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} الْآيَةَ [8/ 33]، وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُرِهِ الْعَذَابَ، الَّذِي وَعَدَهُمْ بِهِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} [23/ 95] وَبَيَّنَ فِي سُورَةِ الزُّخْرُفِ، أَنَّهُ إِنْ ذَهَبَ بِهِ قَبْلَ تَعْذِيبِهِمْ، فَإِنَّهُ مُعَذِّبٌ لَهُمْ وَمُنْتَقِمٌ مِنْهُمْ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ إِنْ عَذَّبَهُمْ، وَهُوَ حَاضِرٌ فَهُوَ مُقْتَدِرٌ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [43/ 41- 42].

.تفسير الآية رقم (96):

{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96)}:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} هَذَا الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَاتُ الثَّلَاثُ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعَامَلَ بِهِ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ بِإِيضَاحٍ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} الْآيَةَ [7/ 199- 200]، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، أَيْ: بِالْخَصْلَةِ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الْخِصَالِ، وَالسَّيِّئَةُ مَفْعُولُ ادْفَعْ وَوَزْنُ السَّيِّئَةِ، فَيْعَلَةٌ أَصْلُهَا: سَيُّوئَةٌ وَحُرُوفُهَا الْأَصْلِيَّةُ السِّينُ وَالْوَاوُ وَالْهَمْزَةُ، وَقَدْ زِيدَتِ الْيَاءُ السَّاكِنَةُ بَيْنَ الْفَاءِ وَالْعَيْنِ، فَوَجَبَ إِبْدَالُ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ يَاءً وَإِدْغَامُ يَاءِ الْفَيْعَلَةِ الزَّائِدَةِ فِيهَا عَلَى الْقَاعِدَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِ ابْنِ مَالِكٍ فِي الْخُلَاصَةِ:
إِنْ يُسَكَّنِ السَّابِقُ مِنْ وَاوٍ وَيَا ** وَاتَّصَلَا وَمِنْ عَرُوضٍ عُرِّيَا

فَيَاءُ الْوَاوِ اقْلِبَنَّ مُدْغَمًا ** وَشَذَّ مُعْطَى غَيْرَ مَا قَدْ رَسَمَا

كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا.
وَالسَّيِّئَةُ فِي اللُّغَةِ: الْخَصْلَةُ مِنْ خِصَالِ السُّوءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أَيْ: بِمَا تَصِفُهُ أَلْسِنَتُهُمْ مِنَ الْكَذِبِ فِي تَكْذِيبِهِمْ لَكَ، وَادِّعَائِهِمْ الْأَوْلَادَ وَالشُّرَكَاءَ لِلَّهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ أَنَّ اللِّينَ وَالصَّفْحَ الْمَطْلُوبَ فِي آيَاتِ الْقُرْآنِ بَعْدَ نُزُولِ الْقِتَالِ إِنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ، دُونَ الْكَافِرِينَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [5/ 54] وَبَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابِهِ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [48/ 29] وَقَوْلِهِ: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [15/ 88]، وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [9/ 73] إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ: جَمْعُ هَمْزَةٍ وَهِيَ الْمَرَّةُ مِنْ فِعْلِ الْهَمْزِ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ: النَّخْسُ وَالدَّفْعُ، وَهَمَزَاتُ الشَّيَاطِينِ: نَخَسَاتُهُمْ لِبَنِي آدَمَ لِيَحُثُّوهُمْ، وَيَحُضُّوهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي، كَمَا أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [19/ 83] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} الْآيَةَ [43/ 36- 37].
وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ: وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ أَنَّ الْمَعْنَى: أَعُوذُ بِكَ أَنْ يَحْضُرَنِي الشَّيْطَانُ فِي أَمْرٍ مِنْ أُمُورِي كَائِنًا مَا كَانَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ وَقْتَ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [16/ 98] أَوْ عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْتِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الشُّؤُونِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.